كبار المدربين يشكلون العقول المدبرة وراء خطوط المباراة، حيث يطورون تشكيلات وأساليب ضغط هجومي ودفاعي تضمن توازن الفريق وتحقيق النتائج، مثل أسلوب جوسيب غوارديولا المعروف بالسيطرة على الكرة عبر التمريرات القصيرة وضغط التيكي تاكا. يميل يورغن كلوب في المقابل إلى استخدام الضغط المكثف والهجمات السريعة للاستفادة القصوى من مهارات لاعبيه في التحولات الهجومية. هذه الطرق ليست عشوائية بل معمقة وتحسب وفقًا لتحليل دقيق للمنافسين، مما يساهم في التحكم بمجرى المباراة وتفوق الفريق التكتيكي. إذن فهم فلسفات هؤلاء المدربين يساعد القارئ على قراءة المباراة كما يفعل الخبراء.
من الأساطير الذين أثروا كرة القدم هو السير أليكس فيرجسون، الذي استمر بتحويل مانشستر يونايتد عبر عقود معتمدًا على دمج الشباب واللاعبين المخضرمين بأساليب مختلفة حسب الظروف. مثال آخر هو ماوريسيو بوكيتينو الذي أعاد الروح الشابة لتوتنهام بأسلوب دفاعي منظم وتحركات هجومية مركزة، مما جعل فريقه منافسًا حقيقيًا. إن قصص نجاح هؤلاء العلماء توضح بأن النجاح ليس مجرد مهارة فردية بل تخطيط استراتيجي طويل الأمد. كل قصة تحمل دروسًا عالية في المرونة والقيادة الذكية في عالم كرة القدم.
مورينيو يظهر تميزًا في بناء علاقات عميقة مع لاعبيه تعتمد على تحفيز النفس والفهم الدقيق لشخصياتهم. من المواقف الشهيرة التي لا تُنسى مواصلته دعم كريستيانو رونالدو في ريال مدريد وعدم ترك أي خلاف يُأثر على ادائه القيادي. كذلك قصة جون تيري في تشيلسي حين أعاد مورينيو ثقته وقدرته على القيادة الجماعية التي أهلته لأن يكون من أكبر المدافعين في تاريخ الدوري الإنجليزي. هذه العلاقات تصنع الفرق الكبير وتنقل اللاعب من مجرد موهبة إلى أسطورة مؤثرة في الملعب وخارجه.
العلاقة بين المدرب واللاعبين هي أساس بيئة العمل الناجحة في أي نادي أو منتخب. فالتفاهم والتوجيه النفسي من المدرب يعززان الثقة ويشجعان اللاعبين على تخطي أوقات الضغط. مثال بوب برادلي يؤكد أن فهم خلفيات اللاعبين الثقافية والاجتماعية يؤثر بشكل إيجابي على أداء الفريق كاملاً. هذا التوجه الإنساني والمهني يشكل فارقًا في اللحظات الحاسمة داخل المباريات الكبرى.
تحولت كرة القدم في الألفية الجديدة، حيث التكنولوجيا تلعب دورًا لا غنى عنه في تطوير التكتيكات وتحليل الأداء. يستخدم المدربون بيانات دقيقة من أنظمة تتبع GPS والتقنيات الرقمية لفهم تحركات اللاعبين واستراتيجيات الخصم وتعديل خططهم حسب الحاجة. جوارديولا كان من الأوائل الذين استغلوا هذه الأدوات ليغير وجه اللعب العالمي، معتمداً على تحليلاته لتبني فلسفة استحواذ كرة القدم الدقيقة والتحكم بالزمن داخل الملعب. هذه الثورة التكنولوجية دفعت كرة القدم نحو أفق جديد حيث العلم والفن يتكاملا لخلق مباريات ذات جودة عالية.
كل فريق يتبنى أسلوب لعب يتناسب مع إمكانياته وأهدافه، فالمنتخب الألماني يعتمد على التنظيم الدفاعي والثقة في الكرات العرضية السريعة، فيما يستخدم المنتخب الإيطالي تكتيك الدفاع المنظم مع الاعتماد على المرتدات السريعة. شهدت البطولات الحديثة تحولات في استخدام التشكيلات، مثل اعتماد بعض الفرق على 3 مدافعين لتفعيل الأظهرة الهجومية، مما أوجد نظرية جديدة في موازنة الدفاع والهجوم. دراسة هذه الطرق تمكن المشاهد العادي من فهم كيف تدار المباريات بشكل تكتيني وكيف تتحول فرق إلى جواميث تكتيكية متقنة. المعرفة بهذا الجانب تضيف تفاعلًا أكبر لدى متابعي كرة القدم.
لا شك أن التكنولوجيا قد أحدثت ثورة في عالم كرة القدم، مما جعل اللعبة أكثر إثارة ومتعة. ومع ذلك، يجب أن يتم استخدام التكنولوجيا بحكمة، مع الحرص على الحفاظ على روح اللعبة وقيمها.
يقول دريس بيلاين رئيس قسم التوظيف في نادي أندرلخت البلجيكي: «الحقيقة الواضحة أنه لا يجب أبدًا التعاقد مع لاعب بناءً على البيانات وحدها، ومن ناحية أخرى، لن نتعاقد على أساس مقاطع الفيديو أو المراقبة المباشرة. نحتاج لفهم الصورة الكاملة واستكشافها». جاءت هذه الكلمات نتيجة النمو الكبير لاستخدام تحليل البيانات في كرة القدم، وتأثيره الكبير على قرارات التعاقد مع اللاعبين، إذ يدرك مسؤولو الأندية أن الفريق لا يمكن أن ينجح دون العناصر المناسبة.
في العادة، يكون اتخاذ قرارات التعاقد أمرًا بالغ الصعوبة، خاصة مع ضغط الوقت خلال نهاية فترات الانتقالات، بينما تدفع الوكالات اللاعبين لعقد صفقات مربحة، وتتصاعد مطالب الجماهير بأسماء كبيرة، في حين تنشر وسائل الإعلام شائعات عديدة. وهنا تبرز أهمية تحليل البيانات كأداة تسمح باتخاذ قرارات ذكية بعيدة عن التسرع والعاطفة.
كان في السابق المراقبون يشاهدون المباريات لتقييم موهبة اللاعب من خلال خبرتهم فقط، أما اليوم فحلت التحليلات الرقمية محل تلك السلوكيات التقليدية. الأندية المتقدمة في أوروبا تعمل على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدوات التحليل المتقدمة لتوسيع نطاق البحث عن المواهب وتقييمها.
تعتمد الأندية الكبرى على تحليل البيانات لتقييم آلاف اللاعبين من مختلف أنحاء العالم، وتوفير خيارات متعددة حسب احتياجاتها. بفضل هذه الأدوات أصبحت الفرق قادرة على اكتشاف لاعبين في أماكن غير متوقعة، يتناسب مستواهم مع طموحات النادي وفي الوقت نفسه يكونون أقل تكلفة من النجوم المعروفين.
توسع استخدام البيانات في كرة القدم حتى أصبح أساسًا لاتخاذ القرارات داخل الأندية. نادي برينتفورد الإنجليزي مثال واضح على هذا التحول، إذ حقق أرباحًا ضخمة في سوق الانتقالات من خلال نموذجه التحليلي الخاص بمقارنة القوة بين الفرق والبطولات. بفضل ذلك تمكن النادي من اكتشاف لاعبين موهوبين في فرنسا والدنمارك، وباع مواهبه لاحقًا إلى أندية كبرى بإنجلترا مثل أولي واتكينز ونيل موباي.
يعتبر ليفربول من أبرز الأندية التي سخرت تحليل البيانات في إدارة التعاقدات بذكاء. بفضل هذا النهج وجد النادي التوازن بين اللعب الجماعي والتحليلات الرقمية، إذ استقطب محمد صلاح وفيرجيل فان دايك وأليسون بيكر، الذين صنعوا حقبة المجد الأوروبية بتحقيق دوري الأبطال عام 2019 والدوري الممتاز عام 2020.
يعود الفضل في ذلك إلى إيان جراهام، مدير قسم الأبحاث في النادي، حيث طور مقياسًا يسمى "احتمالية الهدف المضافة"، يعتمد على تحليل كل تصرف يقوم به اللاعب داخل المباراة – تمريرة أو تصويبة أو تدخل دفاعي – وذلك لحساب مدى تأثيرها على فرصة الفريق في التسجيل.
تعاقد ليفربول مع نابي كيتا بعد دراسة بياناته في ريد بول سالزبورغ، إذ أظهرت بياناته أن تمريراته القليلة كانت ذات فعالية هائلة. كذلك تم التوصية بالتوقيع مع محمد صلاح رغم فترته الباهتة مع تشيلسي، حيث أظهرت البيانات أن إنتاجيته الإجمالية في مسيرته تفوق ما أظهرته الإحصائيات السطحية أثناء تواجده في إنجلترا.
معظم الأندية الكبيرة تفضل امتلاك قواعد بيانات داخلية، إلا أن العديد منها يتعاون مع شركات متخصصة. من أبرزها شركة "مجموعة الواحد والعشرين" (Twenty First Group) التي تقدم أدوات لتقييم الترابط بين أداء اللاعب والفريق.
استفاد من خدماتها نادي ريد ستار بلجراد، حين احتاج إلى بديل للاعب وسطه المغادر "جيلور كانجا"، وقد نجحت الشركة في ترشيح اللاعب الهولندي لورنزو إيبيسيليو من الدوري القبرصي بسعر مناسب وجودة مضمونة.
يقول عمر شودري مدير الشؤون العامة في الشركة: «استخدام البيانات يوسع دائرة الخيارات المتاحة أمام الأندية ويكشف المواهب من أماكن غير متوقعة».
من الأدوات المشهورة أيضًا برنامج TransferLab من شركة Analytics FC، الذي يحتوي على خوارزميات تنبؤية متقدمة تساعد على تقييم وتحليل أداء اللاعبين في أكثر من 90 ألف ملف للاعبين من الرجال و5000 لاعبة من السيدات. من أشهر الأندية التي تستخدم هذا البرنامج ليدز يونايتد الإنجليزي وماذرويل الاسكتلندي وكيه.أيه.أ جنت البلجيكي.
في النهاية، تكشف لنا هذه التطورات أن كرة القدم لم تعد مجرد لعبة قائمة على المشاهدة والعاطفة، بل أصبحت ساحة علمية دقيقة تستخدم التكنولوجيا والبيانات لبناء قرارات مدروسة وتصميم فرق أكثر تكاملاً وكفاءة.
🔙 العودة إلى الصفحة الرئيسية